من المبادئ التي اهتمت بها الدراسات والأبحاث في العلوم السياسية والفكرية هو "مبدأ الرشد"، وهو مبدأ أساسي في التدبير السياسي الرشيد، يدل – حسب الفيلسوف طه عبد الرحمن- على الانتقال والخروج من حالة القصور إلى حالة النضج، ويستند هذا المبدأ على ركنين أساسيين، الأول: الاستقلال عن كل وصاية أو سلطة تقيد الحق في التفكير والممارسة والتشريع، والثاني: الإبداع في الأفكار والنُّظم والقوانين على أساس القيم المشتركة. فالرشد هو ضد القصور؛ الذي أشار إليه إيمانويل كانط في جوابه عن سؤال: ما الأنوار؟ فقال: القصور هو: عجز الإنسان عن استخدام فهمه، دون توجيه الآخرين، وغياب القدرة على اتخاذ المواقف الشجاعة في استخدام الفهم، دون قيادة الآخرين.
وقد صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، كتاب موسوم ب: "الرشد السياسي وأسسه المعيارية" لمؤلفه د. لؤي صافي، الذي حاول فيه إعادة الاعتبار للنظام السياسي الرشيد، الذي ارتبط في وجدان المسلم بنموذج الخلافة الراشدة، المؤسَّس على قيم العدل والشورى والمسؤولية الاجتماعية، التي رافقت الازدهار الحضاري.
وسعى فيه إلى إعادة قراءة النماذج السياسية التاريخية قراءة معيارية؛ توظف القيم الكلية الممكنة التي سادت في تلك العصور، لتطوير رشد سياسي معاصر، يستجيب للمتطلبات الواقعية الحديثة، دون استنساخ تلك التجارب وتجريدها من سياقاتها التاريخية وخصوصياتها الثقافية، في نوع من استدعاء الغايات الكبرى التي بوّأت المجتمع السياسي التاريخي مكانة عالية، وأنزلته المنزلة العظمى بين الأمم.
ومن المعلوم أن الرشد، والإنسان الراشد، أو المرشد عموما، هو نتاج المجتمع والثقافة، أجمعت عليه قلوب الناس وأصواتهم، لأنه خير من يمثل مبدأ الرشد، وخير من يدبر أمورهم؛ سواء الدينية أو الدنيوية. فالراشد أو المرشد تحت هذا المعنى، قد يكون سلطانا أو ملكا أو رئيس دولة، وقد يكون عالما أو معلّما، وقد يكون أبا أو أما، وقد يكون مؤسسة دينية أو سياسية أو ثقافية أو إعلامية، ففي جميع تلك الأحوال؛ فإن القيام بالمسؤولية على أسس مبدأ الرشد حكما أو تعليما أو تربية أو تثقيفا هو الأساس في بناء مجتمع راشد.
وذلك ما يؤكده قوله تعالى على لسان موسى حينما طلب التعلم، فقال: "هَلْ اَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا"(الكهف66)؛ فغياب الرشد والإنسان الراشد في أي مجتمع، وفي أي نظام سياسي واجتماعي، هو نقطة ضعف من شأنها أن تؤثر على منظومة القيم المجتمعية بأكملها، باعتبارها بوصلة الحكم السياسي الراشد. فالأزمات التي تعصف بالدول والمجتمعات المعاصرة، إنما أوتيت من غياب مبدأ الرشد والإنسان الراشد.
وقد أجمعت مجامع اللغة العربية على أن مفهوم الرشد هو وصف لكل قول أو فعل تتحقق به كرامة الإنسان، وهو مرادف للتعقل؛ فالراشد هو العاقل، ومنه سنُّ الرشد، الذي ينتقل فيه الإنسان إلى مرحلة المسؤولية عن أقواله وأفعاله وسلوكياته، وهو يشير أيضا، إلى النضج النفسي والنظر العقلي، وقدرة الإنسان على ضبط عواطفه وشهواته ومنعها من الجنوح، وهذا المعنى استُخدم في القرآن الكريم على لسان نبي الله لوط عليه السلام، ليبان قيمته ومكانته الاجتماعية، حين قال لقومه: "أليس منكم رجل رشيد" (هود الآية 78).
لا مندوحة أن الرشد هو تمثل جملة من المبادئ والقيم، التي تجعل من النظام السياسي يغلّب المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وتكون الإنتاجية في المجتمع الراشد مظهرا من مظاهر الحرية، التي تسمح لأفراد بتطوير حياتهم وتحقيق طموحاتهم وإبداعاتهم، في أجواء من التعاون والتناصح. وهذه القيم في جوهرها هي الغايات الأساسية التي سعت الرسالات السماوية إلى تأكيدها وترسيخها في الحياة الاجتماعية.
إن مفهوم الرشد ينبثق من منظومة قيم معيارية تعطي للكلمة مدلولها الحقيقي، في الممارسة السياسية المتحررة من المفاهيم المتداولة ذات السمعة السيئة؛ التي تدل على الاحتيال والخداع والنصب، التي ولّدتها نُظم وأنظمة تدّعي اعتماد مبدأ الشورى في شكله الديمقراطي الحداثي، لكنها تمارس في حقيقة الأمر طقوسا إجرائية فارغة من روح الشورى الحقيقية؛ كما هي حال الانتخابات في بعض الدول العربية، التي تذكرنا بالعصور الوسطى المظلمة؛ حينما تطلع علينا بنتائج خيالية تصل إلى ثمانين أو تسعين بالمائة من أصوات الناخبين. فالرشد هو قمة وعي الإنسان ونضجه، وصمام الأمان من الانجرار إلى الأوضاع السياسية الفاسدة، التي قد تؤول إليها حياة الأفراد والجماعات.
لقد أسهمت قيم الرسالة السماوية بشكل كبير في بلورة الأسس التي قامت عليها أول دولة في الإسلام بمفهومها الحديث، والتي تتغيا حماية الإنسان والدفاع عن مصالحه، دون الالتفات إلى انتمائه العقدي أو العرقي أو القومي؛ فأنسنة السياسة تعتبر من أسس الرشد السياسي، التي تحترم قيمة الإنسان وكرامته، بغض النظر عن قناعاته الدينية، فتحقق بذلك غاية الاجتماع الإنساني ومتطلبات العمران.
إن الرشد السياسي ينبني على مبادئ انسانية واضحة، تتناول جوانب الحياة المجتمعية كلها، وتشمل السلوك الإنساني ظاهره وباطنه، تتحقق بها مصالح الإنسان وتحفظ كرامته؛ فالقرارات السياسية المتعلقة بالحياة العامة لابد وأن تنزل عند هذه المبادئ؛ وهو ما يعني ترشيد الحياة السياسية نحو بناء وعي إنساني راقي، يقوم على مبادئ أخلاقية مشتركة بين أفراد المجتمع.
ومن معالم الإنسان الرّاشد في حسن التدبير السياسي، قدرته على ضبط النفس؛ لاسيما في حالات الاستفزاز والتوتر، والنظر إلى عواقب الأمور ومآلاتها، والاتصاف بالحكمة في التعامل مع الناس، واحترام مشاعرهم وآرائهم ومصالحهم، والتواصل معهم، والإحسان إليهم.
فالراشد يدرك جيدا كيف يتحكم بردود أفعاله، ويتأنى قبل إصدار أحكامه ومواقفه، ويتحاشى العواقب الوخيمة لتصرفاته، فيدرك كيف يتخلص من مشاعر الغضب والخصومة. وهو دائم التقويم لمنهجه ونظرته وحكمه على الآخرين، كما يحرص على مد جسور التعاون معهم. فمنتهى الرشد هو المداومة على طلب الصواب؛ فهو اجتهاد مستمر، وعمل متواصل لا يتوقف، بل يتطور مع تجدد القضايا والإشكالات السياسية والاجتماعية.
اليوم، يعد الرشد السياسي مطلب مجتمعي، يؤكد عليه التطور الحاصل في بنية المجتمع، وتحوله من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع سياسي بامتياز، وهو تحد يواجه المجتمعات العربية والإسلامية عموما، التي تبحث عن النظام السياسي المجتمعي الذي يعبر عن خصوصياتها القيمية والوجدانية، ويمكّن من تطوير مجتمع يحفظ مصالح الأفراد وخصوصياتهم الدينية، دون التفريط بالحقوق المدنية والسياسية المشتركة، وفي مقدمتها مبادئ العدل والحرية والمشاركة والمساءلة لتطور الفرد والمجتمع.
يوسف المتوكل
باحث في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان
عضو مختبر الدراسات الدينية والعلوم المعرفية والاجتماعية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس- فاس- المغرب
= = =
المواد المنشورة هنا تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المختبر.