لقد جعل القرآن من العلم ثقافة وممارسة، لا مجرد معرفة نظرية مجردة ،قال مالك بن نبي: " ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق العملي في حياتنا، لأن العقل المجرد متوافر في بلادنا، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فشيء يكاد يكون معدوما .
فالمسلم يتصرف مثلا في أربع وعشرين ساعة كل يوم: فكيف يتصرف فيها ؟ وقد يكون له نصيب من العلم أو حظ من المال فكيف ينفق ماله ويستغل علمه ؟ ( شروط النهضة، مالك بن نبي، ص2) 
ثم قال : " ألم نقل: إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاما مجردا بل أكثر من ذلك، فهو أحيانا يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط.
ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي، فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي" ( شروط النهضة، ص103)
فللخروج من العقم الاجتماعي، والوصول إلى التنمية المنشودة لابد من تحويل العلم إلى ثقافة بما هي نظرية في السلوك والعمل لا مجرد نظرية في المعرفة والفكر ،يقول الأستاذ المهدي المنجرة :
" إن التنمية هي عندما يصير العلم ثقافة، وما لم يتحول العلم والتكنولوجيا، إلى جزء من حضارتك وثقافتك وقيمك، فليس هناك علم ولا تكنولوجيا"( حوار مع الدكتور المهدي المنجرة حول مستقبل المدرسة المغربية في أفق القرن 21، مجلةعالم التربية، العددان 2و3 الصفحة 4) 
فأول خطوة في طريق التنمية عندما يتحول العلم إلى قيم تضبط السلوك الاجتماعي للفرد، وتضبط إيقاع حركته ونشــــاطه في مجال الاستخلاف والعمران. إن قيما مثل الصدق والإخلاص، والوفاء بالعهود، والإتقان والإحسان، والكفاءة والأمانة، وحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، والتورع عن الكسب الحرام، والنصيحة للمسلم ، وغيرها .. من شأنها أن توفر عنصر الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع المسلم، وروح التعاون على إنجاز مشاريع تنموية منتجة ومباركة، صِمَامُ أمانها قول الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } الأعراف: 96

وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلى أن هناك إجماعا على أن اليابانيين وصلوا إلى ما وصلوا إليه بالعمل المنظم وليس بالعبقرية الفكرية فقط، فهم يعملون ويتطورون في ميدان العمل أكثر مما يتطورون في مجال البحث العلمي .
والأمة الإسلامية اليوم وإن كانت تتمتع بوجود ذهني، فإن وجودها العيني غير متمكن ما دامت عالة على الغرب في كثير من الأشياء، ولا سبيل لتحقيق وجودها العيني إلا بالعمل والإنتاج والابتكار والإبداع. بكلمة واحدة: بامتلاك أسباب القوة المادية.. حينئذ تستطيع أن تؤثر في منظومة الغرب القيمية.
والعمل إذا انبنى على أصول وقواعد علمية شرعية منبثقة من الرؤية القرآنية والسنية فإنه ولا شك سيكون عملا آخذا بمقاصد الفعل مقدرا لمآلاته، لا مجرد عمل تقني يقف عند الإجراءات الآلية ولا يتطلع إلى الأبعاد المقاصدية، ولذلك أدرج الدكتور طه عبد الرحمان ضمن الآفات الخلقية للعولمة، سيطرة التقنية في مجال العلم والإخلال بمبدأ العمل، وفي ذلك يقول : 
" لما كانت التقنية تطبيقا للعلم ، لزم أن تكون تابعة له وخادمة لأغراضه، فتكون للعلم الأسبقية على التقنية، لكن هذا التصور التقليدي للتقنية والعلم بات غير مقبول في سياق العولمة، وذلك من وجهين اثنين:
أحدهما؛ أن العلاقة بينهما أضحت علاقة تداخل قوي تأخذ التقنية بزمامه، فبعد أن كانت التقنية وسيلة في يد العلم، صار العلم وسيلة في يدها تزوده بآفاق جديدة في البحث، تستنبطها من خصائصها الاستعمالية ونتائجها التحويلية، كما توجهه بحسب الحاجيات الاستهلاكية التي تحددها السوق العالمية أو بحسب المشاريع التجارية التي تضعها كبريات الشركات المتحكمة في هذه السوق .
والوجه الثاني؛ أن المعرفة التقنية أخذت تتضمن، إلى جانب دراسة مختلف الآلات والأدوات التي اختصت بها، دراسة السياق الصناعي والاجتماعي والثقافي الذي يتم فيه تطبيقها، رابطة بين التقدم التقني وبين تطور البنيات الاجتماعية، بمعنى أن المعرفة التقنية صارت تشتغل بما كان يختص العلم النظري بالاشتغال به، مما زاد من قدرتها على التأثير فيه، تحديدا لشكله و تخطيطا لمساره، هذا التأثير الذي أدى إلى أن تتسارع وثيرة الاكتشافات والاختراعات في مختلف مجالات المعرفة، حتى أصبح بعضها يثير أشد المخاوف والمخاطر على مستقبل البشرية .. ( ثم قال): وإذا نحن تأملنا في طبيعة العلاقات الكونية التي يمكن لهذا الوضع التقني للعلم أن ينشئها بين بني البشر، وجدنا أنها عبارة عن علاقات بين إجراءات، لا علاقات بين أعمال، ومعلوم أن الإجراء هو كل فعل آلي، أي فعل نتحكم في مدخله ومخرجه معا، بينما العمل يأخذ بمقصد الفعل قبل أن يباشر التحكم فيه، والمقصد عبارة عن معنى قيمي أو حكمة للفعل تجاوز مدخله ومخرجه الظاهرين، كما يجاوز مقصد حفظ الحياة، مثلا، فعل الصيام في يوم مرض، وعلى هذا، فلا مكان لمفهوم " العمل المقصدي" في العلاقات الكونية التي تنتجها تبعية العلم للتقنية ، نخلص من هذا إلى أن أهل العولمة في علاقاتهم الثقافية يكتفون بالإجراءات الآلية ولا يتطلعون إلى الأعمال المقصدية، فتكون الآفة الخلقية التي تتسبب فيها سيطرة التقنية في مجال العلم هي بالذات الإخلال بمبدأ العمل هذا الذي يوجب الجمع بين مقتضى التحكم ومقتضى الحكمة " ( المنعطف، العدد: 20)
وبجمعنا بين مقتضى التحكم ومقتضى الحكمة في العمل، فإن عملنا في تطبيق شرع الله وتنزيل مبادئ وحي الله، لن يقتصر على المظاهر والنتائج غافلا عن الأسباب والدوافع..ألا ترى أننا عندما ننظر إلى مجتمعاتنا ومدى بعدها عن شرع الله، غالبا وربما دائما، نسلط نظرنا على بيع الخمور والدعارة والسرقة وما إلى ذلك مما يدخل تحت المخالفات الموجبة للحدود، وهذا ولا شك جزء لا ينكر من شرع الله، إلا أننا نغفل عن تفشي الجهل والأمية بيننا، والبطالة، وتردي الوضع الصحي والتعليمي، وعدم تأمين ضروريات الحياة الحافظة لكرامة الإنسان بشكل عام، وعدم توفير البيئة النقية المناسبة التي تساعد المواطن على أن يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا، وهذا كله وغيره مما أغفلت ذكره، هو من صميم شرع الله ومن جوهر الالتزام بدين الله ، ولو اتسعت مداركنا للموضوع، وتجاوزنا تمثلاتنا الجزئية المختزلة له، لظهر لنا جميعا مدى تقصيرنا وبعدنا عن مقتضيات وتبعات الشعار الذي تهتف به عواطفنا بلا وعي كاف: نريد تطبيق شرع الله.
للأسف ما زلنا نشكو أزمة حادة على مستوى الفكر والوعي، تجعل المفاهيم والرؤى لدينا ملتبسة ومشوهة، فينعكس ذلك على مواقفنا من بعضنا البعض، وعلى علاقاتنا البينية، وعلى مشروعنا الإصلاحي ووظيفتنا الاستخلافية التنموية التي طالما نفشل فيها، لا لفشل في إسلامنا بل لفشل فينا وفي تمثلاتنا وتصوراتنا، كما قال العبقري محمد الغزالي رحمه الله: " الإسلام قضية عادلة إلا أن محاميها فاشلون " وهل في طليعة محامي الدين والشريعة والمنافحين عنها غير العلماء والدعاة.
لقد آن للعقل المسلم أن يميز بين الأعراض والأمراض الأصلية، فينصب جهده بالأساس إلى معالجة الأدواء الأصلية التي باختفائها تختفي الأعراض، وبضمورها – إن تعذر اختفاؤها بالمرة – تتقلص الأعراض بشكل كبير، ولن تكون الأمراض الأصلية من وجهة نظري إلا المفاسد الهادمة لكرامة الإنسان ولإنسانية الإنسان كالجهل والأمية والضلال والفراغ والحاجة والبطالة والاستخفاف والفساد والاستبداد .. أما الجرائم الموجبة للعقوبات فهي مجرد أعراض منازعة للفطرة يخبو أوارها أو يستعر بحسب انتشار أو انحسار أسبابها وموجداتها.
كم نبتعد عن الحقيقة حين نفصل أي نقطة عن سياقها العام، وكم نجنح قصيا حين ننظر إلى قطرة ماء ونغمض أعيننا عن البحر..

مقالات أخرى للكاتب :
- العلم دعوة ومدافعة ونصرة ومرافعة

إرسال تعليق

 
Top