 |
photo: pixabay.com |
إن العلم ما لم يكن مدافعة للباطل ومرافعة عن الحق، فإنه يكون أقرب إلى الجهل منه إلى العلم مهما حشي ذهن صاحبه حواشي ومتونا ، وأوتي من التنميق اللفظي أشكالا وفنونا ... ألم تر أن من أهم وظائف العالم: وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشهادة على الناس، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن ، صادعا بالحق مهما كان مرا ، غير مقر لمنكر مهما كلفه من أمره عسرا. أليس هو – من دون العالمين – وارث النبي صلى الله عليه وسلم ، والموقِّع عن رب العالمين، والشاهد بالحق عطفا على الله وملائكته .. بصلاحه يصلح الزمان وبفساد يفسد .. فكيف لمن كان هذا شأنه أن يجبن عن نصرة الحق ومدافعة الباطل ؟!
فوا عجبا لجلَد أفراد من الليبراليين واليساريين والعلمانيين ، وجرأتهم في نصرة باطلهم باسم الحرية والحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان ، وتطاولهم على العلماء الراسخين وعلى شريعة رب العالمين، وتخاذل وجبن من يسمون زورا وبهتانا بالعلماء عن الصدع بالحق في وجه الكائدين المضلين دون أن تأخذهم في الله لومة لائم.
إن واجب علماء الشريعة اليوم - كما كان في كل زمان – أن ينشروا أفكارهم بين الناس بلا مواربة ، وأن يبينوا شمولية هذا الدين ، ويدفعوا الأنماط الإيديولوجية الدخيلة التي أفرزتها مرحلة ما بعد الاستعمار، مرحلة الدولة القطرية الحديثة، فخورين بشريعة رب العالمين، خصوصا أن الصراع في المجتمعات العربية بات مكشوفا غير مستتر بين مرجعتين متناقضتين : مرجعية تستمد مشروعيتها من العمق التاريخي والانتماء العقدي والديني للأمة، مبشِّرة بمشروع مجتمعي بديل بكل أبعاده المعرفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومرجعية أخرى دخيلة، تجد مبرراتها في الحداثة الغربية بما هي مشروع مجتمعي آخر مختلف تماما يريد أن يفرض سطوته وهيمنته على هذه المجتمعات طوعا أو كرها .. ففي أي صف يصطف علماء الشريعة يا ترى ؟؟.
على علمائنا أن يحسوا بالأمانة التي هم مطوقون بها؛ أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمانة الشهادة على الناس حكاما ومحكومين، وأمانة إرشاد الضالين وتوجيه الغافلين ، وأمانة الإفتاء بما يرضي الله ويوافق الدليل الشرعي، لا بما يرضي الخلق ويوافق الهوى السياسي أو الاجتماعي.
وقد عظم ديننا أمر الأمانة حتى قال صلى الله عليه وسلم ، " لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " وفي رواية " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين له ، ولا صلاة له ، ولا زكاة له ".
فالعالم الذي يكون لعلمه راويا ولا يكون له راعيا، قد ضيع أمانة هي من أجل وأعظم الأمانات ، بل قد ضيع إيمانه، لأن الإيمان مرتبط بالأمانة ارتباط الشرط بالمشروط ؛ كما أفاد الحديث فلا يغرنك شيء من عباداته ومظاهر تدينه، أو شيء من مستودعاته ومحفوظاته، أو من تزويقاته وتنميقاته؛ يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه البيهقي :" لا يعجبكم من الرجل طنطنته ، ولكن من أدى الأمانة ، وكف عن أعراض الناس ."
ومن أجمل ما يتداعى إلى الأسماع في زمن الفتن هذا ربط المسؤولية بالمحاسبة ... وإذا كان رجال السياسة والإدارة والمال مرادين بهذه العبارة ، فإن العلماء من باب أولى وأحرى، مطالبين بأن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، وأن يستحيوا من الله أن يقابلوا نعمة العلم التي أنعم بها عليهم بإهدار الرسالة والأمانة ، كما على جماهير الأمة أن يحاسبوا علماء السوء بنبذهم ومقاطعتهم ونزع صفة العالمية عنهم ، وإن ظلوا يرفعون عقيرتهم بما يبدو في ظاهره علما وما هو بالعلم إن يقولون إلا كذبا، يسحرون به أسماع الناس كما يسحرون بمظاهرهم الخداعة أبصارهم. ألا إن لكل ادعاء مصداقا فما مصداق صدق هؤلاء وقد استقالوا عن المعارك الحقيقية واستنكفوا عن القضايا والمسائل الجوهرية، هذا في أحسن الأحوال، أما في أسوئها فقد داهنوا وأقروا مناكر وبدعا ما أنزل الله بها من سلطان ولووا أعناق الأدلة وساروا في ركب الهوان والذلة إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
" إن الدعوة إلى الله تعالى ليست كما يظنها كثير من الناس طريقا مفروشا بالورود ، يطيب سلوكه لكل من هب ودب، وإنما الدعوة إلى الله طريق شائك لا يسلكه إلا أولئك الذين فتلوا سواعدهم وألهبوا الإيمان وقووا صرح الأخلاق، وصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله ربهم ، إنهم الخلص من ورثة الأنبياء والرسل، الذين صبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله .
أجل، إن في طريق الدعوة إلى الله لعقبة كؤودا بل عقبات وعقبات ، ولا يكاد يقطعها إلا ذوو النفس الطويل، والنظر العميق، والعزم الأكيد والصبر الجميل، إن هؤلاء هم الذين يبنون ويحسنون البناء إنهم يبنون الرجال ويعملون على تقوية بناء الشخصية، في وقت كثر فيه الهدامون وتكاثرت فيه معاولهم، وانصرف فيه الناس عن الاهتمام بالبناء وعن الاهتمام بتقوية البناء، إلى الاهتمام بالرقص والتمثيل والغناء، وإلى الاهتمام بإغراق أبناء البشر في بحار من الشهوات المتلاطمة التي ليست لها بداية ولا لها نهاية " –(إعلام النخبة، للشيخ محمد ضياء الدين الدكالي، ص2)
ثم قال : " فالداعية المخلص هو الذي يحمل بين جوانحه أسمى المعاني الدعوية من التحرق على الإسلام، والحماية لشرائعه واستشعار المسؤولية أمام ربه الذي يعلم سره ونجواه ، والتحرك الدائم لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه ويعتبر نفسه جنديا من جنود الحق ، لا يريد من أحد جزاء ولا شكورا ولا يخاف في الله لومة لائم، تأسيا برسل الله الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله " (إعلام النخبة، للشيخ محمد ضياء الدين الدكالي، ص5)
فما أجدر العلماء أن يثبتوا على المبدأ مهما كانت الظروف وادلهمت الخطوب، فتلك علامة صدق مع الله، ومفتاح لنيل ثقة الناس ومودتهم واستجابتهم لبلاغات الدعوة والإرشاد ؛" ومن أهم ما يجب أن يتصف به الداعية الثبات على المبدأ الذي يدعو إليه فالإمعة الذي تخيفه رعود الهدامين وتستهويه بروقهم فتراه تارة تميميا وأخرى قيسيا لا يناله هذا المنصب الشريف ولا يكون هو من أهله حتى يلج الجمل في سم الخياط، وقد ذم الله في كتابه الكريم هذا الصنف من العلماء فقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } آل عمران: 187.
فالعالم وارث النبوة، ولذلك فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم ، إذ يلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثه في البيان ، وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث ، قال تعالى : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة: 42. فإذا اعتقد الداعي إلى الإسلام بما يناله من عذاب وبلاء، فهو في سعة واختيار من تحمل الأذى أو طلب السلامة ، فإن شاء أخذ بالعزيمة ورفع صوته بالدعوة إلى الحق ، وإن شاء تمسك بالرخصة التي يتمسك بها المستضعفون من الرجال والنساء" ( إعلام النخبة، للشيخ محمد ضياء الدين الدكالي، ص29/30)
ومن روائع قصص العلماء فيما نحن فيه ما ذكره الحافظ أبو نعيم رحمه الله في تاريخ أصبهان أنه لما قتل عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بن مروان وانهزم أصحابه من دير الجماجم هرب سعيد بن جبير رضي الله عنه فلحق بمكة ، وكان واليها يومئذ خالد بن عبد الله القسري فأخذه وبعث به إلى الحجاج بن يوسف الثقفي مع إسماعيل بن واسط البجلي فقال له الحجاج : ما اسمك ؟ قال : سعيد بن جبير ، قال : بل أنت شقي بن كسير ، قال : بل كانت أمي أعلم باسمي منك ، قال : شقيت أمك وشقيت أنت ، قال الغيب يعلمه غيرك ، قال لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى ، قال لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذك إلها، قال : فما قولك في محمد ؟ قال : نبي الرحمة وإمام الهدى، قال: فما قولك في علي أهو في الجنة أو هو في النار ؟ قال : لو دخلتها وعرفت من فيها عرفت أهلها ، قال فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لست عليهم بوكيل، قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، فأيهم أرضى للخالق ؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم ، قال أحب أن تصدقني قال : إن لم أحبك لن أكذبك ، قال : فما بالك لم تضحك ؟ قال : وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار ؟ قال : فما بالنا نضحك ؟ قال : لم تستو القلوب ، ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يديه ، فقال سعيد : إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا، ثم دعا الحجاج بالعود والناي ، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد فقال: ما يبكيك هو اللعب ؟ قال سعيد: هو الحزن ، أما النفخ فذكرني يوما عظيما يوم النفخ في الصور ، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق ، وأما الأوتار فمن الشاء تبعث معها يوم القيامة ، قال الحجاج : ويلك يا سعيد ، قال : لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة ، قال الحجاج: اختر يا سعيد أية قتلة أقتلك عليها قال : اختر لنفسك يا حجاج والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة ، قال : أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو فمن الله أما أنت فلا براءة لك ولا عذر، قال الحجاج : اذهبوا فاقتلوه، فلما خرج ضحك، فأخبر الحجاج بذلك فرده فقال: ما أضحكك ؟ قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط وقال: اقتلوه، فقال: سعيد : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، قال : وجهوا به لغير القبلة، قال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله، قال : كبوه على وجهه ، قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، قال الحجاج : اِذبحوه ، قال سعيد: أما إني أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة ، ثم دعا سعيد فقال: اللهم لا تسلطه على أحد بعدي، وما هي إلا أيام قلائل حتى نزل المرض بالحجاج، وأخذ الدود يتناثر من جوفه وصدره، وكان يغمى عليه ثم يقوم مرعوبا ينادي بأعلى صوته ما لي ولابن جبير، ما لي ولابن جبير، وتلك عاقبة الظالمين يمتعهم الله متاعا قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ .